عن الدورات
27 مايو 2025

الطفل الداخلي.. بريء أم متّهم؟

blog

الطفل الداخلي ليس مجرد مفهوم نفسي متداول أو "موضة" في عالم التنمية الذاتية، بل هو مرآة صادقة لانعكاسات تجاربنا الأولى في الحياة. ومع كثرة الحديث عنه، أصبح لدى البعض هاجس بأن هذا الطفل هو الجاني وراء كل تعثّر أو ألم يواجهونه في حاضرهم! فهل هذا صحيح؟ وهل جروح الطفولة قادرة فعلًا على أن تعيق تقدّمنا؟

في هذا المقال، سنتناول موضوع جروح الطفل الداخلي، لا لنغوص في دوامة البحث المستمر عن الآلام القديمة، بل لنفهم طبيعتها، تأثيرها الحقيقي، وكيف يمكننا أن نرى ما حدث بعين جديدة تمكّننا من المضي قدمًا بقوّة وثقة..

جروح الطفل الداخلي

في أحد الأحياء البسيطة كان هناك طفل صغير، أسمر اللون، نحيل الجسد، لم يكن يمتلك شكلًا جميلًا ولا جسدًا قويًا، فكان عرضة دائمًا للتنمر والسخرية والاستهزاء ممن حوله. ولد في أسرة فقيرة معدمة، وعاش أقسى أنواع حياة الفقر، كانت البيئة التي يعيش فيها مليئة بالعنصرية وخاصةً على الأشخاص ذوي البشرة السوداء، وكانوا يتخذونهم عبيدًا أذلّاء لخدمة أسيادتهم الأشراف البيض ذوي المكانة العالية.

نشأ هذا الطفل في هذه البيئة القاسية، أمّه كانت أسيرة في حرب من الحروب، وأبوه كان عبدًا عند شخص آخر، وكان يتم التعامل معهم بلا آدمية ولا أخلاق،  وبالطبع أصبح عبدًا بعد ولادته لأن أبوه وأمه كانا كذلك، كانت البيئة التي ترعرع فيها قاسية، لا حقوق، لا تعليم، لا حرية، فقط خدمة للأسياد بذل وإهانة، كان يتعرّض للإهانة والإذلال والأعمال القاسية يوميًا، وكان يأخذ نظير أعماله الفتات من قبل سيّده الذي لم يكن يعبأ له، ولم يكن يعامله كإنسان وإنما كعبد مملوك يفعل به ما يحلو له.

كبر هذا الطفل وأصبح شابًا، كبر في بيئة مليئة بالظلم والقهر، بيئة شعر فيها أنه سلعة ولا كرامة له، واستمر في ذلك في شبابه حتى بدأ يغيّر معتقداته، ويعرف حقوقه، وعندما تطوّر فكره وأصبح يسعى للتطوّر العقلي والعقدي، جن جنون سيّده، فأمعن في تعذيبه وإذلاله، وأصبح يتفنّن في تعذيبه بشتى الأساليب مما زاد قساوة واقعه عن قساوة ماضيه، إلا أنه كان يردد دائمًا كلمات تثبّته وتقوّيه ولا يأبه لأشد أنواع التعذيب والإهانة التي كانت معلنة أمام الجميع. 

حسنًا، الآن قف للحظة قبل أن تكمل القراءة

قُل لي، بحسب مفهومك للطفل الداخلي وجروح الطفل الداخلي، ما الذي أصبح عليه هذا الطفل عندما كبر؟ مع العلم بأنه لم تكن طفولته فقط قاسية بل كان شبابه أيضًا أقسى وأشد تعذيبًا وإهانة! توقّف لدقيقتين مع نفسك لتجيب على هذا السؤال قبل أن تكمل القراءة..

المفاجأة! هذا الطفل الذي نشأ في بيئة مليئة بالعنف والفقر أصبح أحد أشهر الأعلام في التاريخ الإسلامي، بل وأصبح فتىً قويًا ومقاتلًا ثابتًا مثابرًا صنديدًا، وأصبح اسمه محفورًا في قلوب كل المسلمين في العالم وكل من يعرف عن الإسلام حتى أنه قد تم إنتاج فيلم أنيميشن عنه عام ٢٠١٥ بتكلفة ٣٠ مليون دولار ليصبح من أعلى الأفلام تكلفةً في تاريخ الأنيميشن العربي، قال عنه عمر بن الخطاب (أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا) يقصد الشاب الذي نتحدث عنه. 

نعم إنه (بلال بن رباح) الذي أصبح مؤذن الرسول ومن أكثر الأشخاص المحببة لقلبه صلى الله عليه وسلم، والمقاتل الصنديد الذي شارك في معظم المعارك الإسلامية حتى بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام.

بعد قراءتك لهذه القصة هل ما زلت تعتقد بأن جروح الطفل الداخلي قادرة على أن تدمّر حياتك وتوقفك عن التطوّر!

أكمل معي لنتعرف أكثر على هذا الطفل المشاكس!

الطفل الداخلي

في الآونة الأخيرة سمعنا الكثير والكثير عن مفهوم الطفل الداخلي وجروحه، وكيف أن هذه الجروح والأزمات التي حدثت في مرحلة الطفولة هي السبب في كل ما تمر به الآن من معاناة، والأخطر من ذلك بأنك لن تستطيع المضي قدمًا في حياتك ما لم يتشافى هذا الطفل الجريح!

وبسبب هذا الكلام أمضى الكثيرون -وقد تكون أنت أحدهم- الكثير من الوقت بحثًا عن هذه الجروح في محاولة منهم لشفائها حتى ينعموا بحياة هادئة يملؤها السلام، ولكن مع الأسف وقعوا في حلقة مفرغة، وفي بعض الأحيان أصبح وضعهم أسوأ من قبل بسبب استمرار البحث عن جروح الطفولة التي لن تنتهي ولا يمكن أن تتذكّرها كلها في وقت واحد!

هل جروح الطفل الداخلي تؤثر على حياتنا إلى هذه الدرجة؟

الإجابة هي نعم ولا؛ دعني أوضح لك أكثر..

مما لا شك فيه بأن تجارب الطفولة تؤثر في شخصيتنا بشكل كبير، ولكن هل هذه التجارب قادرة على إيقافنا عن التقدّم؟ هل حياتنا ستتوقف حتى نتذكّر من قام بأذيتنا عندما كنّا أطفال؟

الإجابة بالتأكيد (لا)، الله سبحانه قال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، أي أن ما تمر به الآن أنت وسعه ويمكنك التعامل معه (الآن)!

لا داعي لأن تتذكر ما الذي أدى إلى حدوث هذا، ولكن  الأهم أن تضع خطة (الآن) بما لديك من إمكانيات وقدرات وموارد متاحة (الآن) كي تتعامل مع هذا التحدي، دون أي تأخير أو انتظار حتى يتشافى هذا الطفل!

إذا كنت تواجه مشاكل مالية، تعلّم أكثر عن المال والأعمال، تعرّف على معتقداتك القديمة عن المال، وابدأ بتفكيك السلبي منها، حتى ترى التغيير بدأ يتجلى في واقعك الخارجي.

إذا كنت تعاني من مشاكل في الثقة، خذ دورات واقرأ كتب عن الثقة وابدأ بالتعامل (الآن) مع هذا التحدي الذي تواجهه، لا داعي لأن تتذكر الموقف الذي أدى إلى تبنّيك معتقدات خاطئة عن المال، ولا إلى الموقف الذي أدى إلى اهتزاز ثقتك.

ببساطة.. أمامك تحدي الآن، تعامل معه!

ولمعلومات أكثر عن قوة الآن والعيش في اللحظة يمكنك قراءة مقال كيف أعيش اللحظة الحالية وأحقق السلام الداخلي.

متى يتأثر الطفل الداخلي بشكل سلبي؟

كما رأيت في قصة بلال بن رباح، فإنه تعرض لأسوأ أنواع العنف والعبودية والإذلال عندما كان صغير ومع ذلك كبر وأصبح من أكثر الأشخاص شهرة في العالم، وفي المقابل نجد أن هناك شخص آخر تعرّض لعنف ربما يكون أقل من هذا بكثير ومع ذلك حياته توقفت ويشعر بالإحباط وبأنه لا يمكنه المضي قدمًا في هذه الحياة!

تُرى ما الفرق بين الاثنين؟

ببساطة الفرق يكمن في (الحديث الداخلي)، فهناك من يحوّل الألم إلى تحدي ويقول بداخله، على الرغم من كل ما يحدث الآن سأصل إلى ما أريد وأحقق أروع الإنجازات، وهناك من يستسلم ويقول بداخله بأن هذه هي النهاية وأن لا قيمة لحياته بعد الآن..

وفي النهاية كل منهم يصل إلى ما أراده لأن: {اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، فما الذي في نفسك؟

أي ببساطة أن الحدث نفسه لا يشكل صدمة (تروما)، وإنما تعامل الشخص مع الموقف ورفضه له ومشاعره وأفكاره تجاهه هو ما يسبب هذه التروما.

وإليك المفاجأة..

غالبًا من لديه مشاكل عميقة تؤثر في حياته وسببها جروح منذ الطفولة، هم يتذكرون هذه المواقف جيدًا ويعلمون أنها تؤثر بهم، ولا داعي لأن يبحثوا بعمق عمّا لا يتذكرونه أساسًا!

تشافي الطفل الداخلي

قبل أن نعرض تمرين عملي للتعامل بشكل صحيح مع مواقف الماضي المؤلمة، دعنا نتفق بأن ما يسبب لك الألم حتى الآن ليس الموقف نفسه، وإنما رفضك لحدوث هذا الموقف، واستخدامه كشمّاعة تعلّق عليها معاناتك الحالية، لذلك فيما يلي سنعمل معًا على تقبّل ما حدث حتى يختفي تأثيره عليك بشكل نهائي بمشيئة الله..

1. استدعِ بوعي الموقف الذي ما زال يسبب لك الألم:

اختر موقفًا محددًا تشعر أنه ترك أثرًا سلبيًا بداخلك.

2. قل بثقة ويقين:

{قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}
"أنا واثق أن ما كتبه الله هو لي لا عليّ، حتى لو بدا مؤلمًا.. فإنه في عمقه خيرٌ عظيم."

3. انوِ أن تتذوق هذا الألم، لا تهرب، لا تقاوم:

اشعر بالمشاعر كما هي. حزنك، غضبك، خيبة أملك.. كلها مشاعر مشروعة، فلا تُقاومها، بل استشعرها بهدوء.

4. أطلق مشاعرك بحرية:

ابكِ إن احتجت، عبّر، اكتب، تحدث بصوت مرتفع.. المهم ألا تُخزّن شيئًا بداخلك.

5. اسأل نفسك: ما المعنى الذي وضعته على هذا الموقف؟

هل قلت لنفسك "أنا لا أستحق"، "لم يحبّني أحد"، "أنا ضعيف"؟
لاحظ هذه المعاني دون حُكم.

وإن لم تصل لأي معنى جديد، فلا بأس. فقط تقبّل عدم معرفتك وردد من جديد بيقين:

{قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}

 "الله أرحم بي من نفسي. ما حدث كان لصالحي، حتى لو لم أفهمه بعد."

6. غيّر منظورك للموقف:

تذكّر: عندما تضعف عضلاتك، فإنك تمارس الرياضة -رغم ألمها- لتقوية هذه العضلات.
وبالمثل، تمرّ أرواحنا بمواقف "مؤلمة" حتى تُزكّى وتشتد، أي أن ما حدث كان لتزكيتي أكثر، ولم يكن لزيادة ألمي ومعاناتي.

7. تذكّر مواقف سابقة كنت تظنها شرًا، ثم مع الوقت اكتشفت أنها كانت خيرًا محضًا:

ثق أن ما يحدث لك اليوم، وإن لم تتضح حكمته الآن، فهو تحت عين الله، وبحكمته الواسعة، يُدبّر لك ما يُصلحك لا ما يُرضيك مؤقتًا، فقد قال لنا سبحانه: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا" لنا وليس علينا، فهذه المصائب لنا، لإفادتنا حتى وإن لم ندرك حينها أين الإفادة، وقال أيضًا: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة: 216]، وجاء في الإنجيل: "لست تعلم الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد" (يوحنا 13:7)، "لأن أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقكم طرقي، يقول الرب" (إشعياء 55:8)، 

قم بممارسة هذا التمرين مع أي موقف من الماضي تشعر بأنه ما زال يسبب لك الألم حتى الآن، وسترى بأن تأثير الموقف سيصبح أقل في كل مرة، وإذا كنت تشعر بأن مقدار الألم كبير ولا يمكنك التعامل معه عندها ننصحك بطلب المساعدة من مختصين نفسيين مجهزّين للتعامل بشكل صحيح مع هذه المواقف.

وفي الختام 

أطلب منك الآن وفي هذه اللحظة أن تأخذ قرارًا حاسمًا بأن تخرج من دور الضحية وتقول بنية صادقة: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، يا الله أنا المسئول عن حياتي بكل ما فيها، وأعلم بأنني وسعها وأنني قادر على التعامل مع هذا الظرف (الآن)، أنا القائد لحياتي ولست تابع لأي ظروف خارجية، أنا خليفة في الأرض وسأسعى بكل قوة لتحقيق أهدافي وترك أثر عظيم في هذه الأرض، رغم أنف أي شيء!

وانطلق بكل قوة وعزيمة ومسئولية..

نصائح ملهمة مماثلة